الرئيسية / العام / ربما يحمل جسده دم لص.. أن تكون مريضًا رومانسيا

ربما يحمل جسده دم لص.. أن تكون مريضًا رومانسيا

لم أعد أحب الحديث عن المرض؛ أحس أنّه يحكم حصاره حولي بما يفرض عليّ حتى المادة التي أكتبها.

كنت أحب الكتابة حول الأحلام. أغوص في عالم ينفصل قليلًا عن واقع مزعجة تفاصيله. أتخيل كيف يحيا الشعراء حين يكتبون قصيدة جديدة، وأحاول أن أكون شيطانهم الذي يحضر الكلمات ويصنع المعجزات بخيال عصي على التطبيق، قابل للتصديق. حين تعرضت لكسرة القلب الأولى ظننت أن العالم الذي أروم تشييده ينهار. لكن القلب ربما العضلة الوحيدة التي تقبل إعادة الإحياء، دون أن تضطر أن تنام على سرير معدني بين أيدي أطباء. يمكن أن تحاط بعائلة أو تقابل واحدة أو ترزق بطفل أو يحوطك أصدقاء. هؤلاء نجاعة للفؤاد ومستقر لخفقانه السليم ومواجهة لأي محاولات تصيبه بالعطب.

كنت أحب الكتابة حول الكتب. أقرأ كتاباً جديدًا مسليًا. أستشعر أهمية أن أنقل ما اطلعت لمن لا يعرف. متعة قراءة كتاب جيد ربما تضاهي هدفًا في الوقت بدل الضائع. نشوة المعرفة حلوة المذاق. ولذة الاستمتاع دون انتظار فائدة أو رسالة كافية، عكس ما ينتظر البعض، الذي يتصوّر أن مؤلف أي كتاب عبارة عن خبير تنمية بشرية.

لكنني لم أعد أقرأ، ولم أعد أكتب عمّا أقرأ. أقسى أنواع العجز حين يفقدك المرض شغفك بالأشياء. يجبرك على ترك ما تحب والانغماس في محاولات مواجهة المرض التي عادة ما تنتهي بالاكتئاب.

كنت أحب الكتابة عن الأفلام. رزقني الله بزوجة تجد سلواها في مشاهدة فيلم جديد أو حَكيهِ. نحب من الأفلام أكثرها تفاهة. فكرة أن تجلس وتشاهد لساعتين فيلمًا يدخل الضحك لقلبك فكرة معينة على مواجهة الضغوطات. لكنني – بالطبع- لم أكن أكتب عن هذه النوعية. هذه النوعية تشبه أن تنسى تطبيقات التواصل الاجتماعي بمجرد عيشك للحظة حلوة، تستحق أن تحيا بداخلها أكثر مما تستحق أن تمسك هاتفك وتنشغل عنها.

حين كنت أشاهد فيلماً ملهما كانت الأفكار تدور في رأسي. هذا فيلم عن البوسنة يستحق البحث والكتابة. هذا عن الصحافة لا يمكن تجاهله إلا بتوثيقه. هذا آخر عن شركات التأمين وكيف لا تمارس أدوارها المنوطة بها في العالم كله. الفيلم – خصوصًا المعتمد على قصص حقيقية – يأخذك إلى عوالم تحيا بداخلها لبعض الوقت. لا يغادر أبطال الأفلام حياتك بسهولة. ربما يعيش أحد الأبطال معك طول العمر من فرط الصدق، والشاشة أداة نقلت قصصا كانت على هامش الحياة، وأرسلتها إلى وعي المشاهد وذكرياته التي لن تُمحى بفعل مرور الوقت الذي يجيد القضاء على محتويات جدران الذاكرة.

كنت أحب الكتابة عن الحكايات. أحبذ أن أجلس بين يدي والدي؛ أستمع إلى قصص يغلب عليها الخيال من فرط واقعيتها. حكايات من الصعيد عن أشخاص مروا في وعاء الزمن وصنعوا أساطير يعرفها جيدا أهل البلدة، لكن لا يعرفها العالمون. ينحسر الصعيد في قصص ثأر أو سرقة آثار أو ربما تندّر بتخلف فكري، ورغم وجود مثل هذه النماذج بالفعل، فإن قصص بالغة الأهمية تتوارى أمام رقعة استولت على اهتمام الفراعنة ومريم العذراء والرحالة ابن بطوطة. يحكي أبي وأسمع وأدوّن. ربما أعيد ميتا للحياة، أو أعرّف بأناس لم يمروا بشكل عابر. أحلم أن أحوّل شذراتهم أفلاما وروايات ومقالات تؤرخ لصعيد حقيقي يمتاز شخوصه بأصالة تضرب في الجذور، ونوادر تستعصي على العقل من فرط تفاصيلها التي لا تنتهي.

تجول برأسي كل هذه الخواطر المزعجة بينما أنظر إلى كيس دم أحمر، يتدلى حبله البلاستيكي داخل وريدي لكي يضخ الدم في جسدي. أصابني الرعب حين أخبرني طبيبي بأنّه قد وصلنا لمرحلة من الأنيميا لا يكفي معها نصائح الأم بتناول الكبدة والعسل الأسود. أمتلك رعبا طفوليا من نقل الدم مثلما أخشى كل شكّة إبرة تضرب في جسدي. تضحك طبيبة التخدير بسخرية وهي تسألني:

“خايف تركب الكانيولا في رقبتك وعندك ٢٨ سنة؟”.

أجيبها أنني لا أحاول أن أكبر في العمر وأنا أتقدم به. لا تفهمني. لا يهم. أكمل النظر وأنا أفكّر دماء من هذه التي تنبعث داخلي دون توقّف: هل هي لفتاة؟ لفاسد يقتل الأحلام؟ للص يسرق الروح والمال؟ ربما لأب أجبر على التبرع لكي يقبلوا منح الدم لابنه. ماذا لو كان الدم لشخص ثقيل الظل؟ هل يستخدم الأجانب تعبير ثقل الدم أم أنّه مصري خالص؟ أنهيت نقل الدم. يخالجني أنني مصاص دماء الآن، وليس كما يبتسم الممرض في بلاهة وهو يخبرني أن الطبيعي لمريض الأورام أن ينقل الدم كل حين، فيجب أن أهوّن على نفسي. استخدم تعبير أورام ولم يقل سرطانا ظنّا منه أنّه وصل إلى مرتبة عليا من الذوق.

لماذا أركز إلى هذا الحد مع كل شيء؟ إنّه السرطان الذي يجبرني أن أحيا تفاصيله بما أنّه رفض صداقتي. يجبرني مرة أخرى أن أسرد كل ما أمر به. هل ينزعج منّي الناس؟

(٢)

جلست بين يدي الطبيب ممسكًا بأشعة تفيد بما حدث طوال الشهور الماضية من تناول بروتوكول علاجي نهش جسدي باقتدار. طلب منّي الطبيب التحمّل لحتمية إيجابية النتائج. قلب في الأوراق في قُنُوط. لم ينجح العلاج لأسباب لا يعلمها إلا الله. سوف أحتاج إلى تجربة بروتوكول رابع. أدوية جديدة سامة تنسل في أوردتي وتُضاف إلى سابقتها. طلبت من الطبيب طلبا غريبا لم أظنّه سيوافقني عليه. طلبت راحة لمدة من الوقت كي أستطيع مواصلة الرحلة. الحقيقة أن مريض السرطان يحب أن يسير خلف أحاسيسه. كنت واثقا بفشل البروتوكول السابق رغم نجاعته الطبية وشهرته العالمية، وأخبرت زوجتي أنني أريد التوقّف، لكنّها حملتني على المواصلة فربما ينجح العلم ويفشل الإحساس.. هل أنا حالم حتى في مرضي؟! لكن الحقيقة التي أخفيتها عن طبيبي وعن الجميع أنني مللت. تملكتني رغبة عارمة في الاستسلام. اصطلح في مجتمعنا على أن الاستسلام فعل مذموم، يَصِمُ صاحبه بعار الضعف. لست بطلا مثلما تحاول أختي أن تصفني. يصيبني المرض بالوهن. تقول زوجتي إن أسوأ ما في هذا السرطان أنّه يختبر قدرتنا على الصبر، وأنا نفد صبري، ولم أعد أحتمل.

الاستسلام انتحار ببطء. هذه حقيقة أعرفها جيدا. في لحظات كتلك تشعر بخفّة. تحلق عاليا. تنظر للأمور كمشهد رأسي. تعيد على نفسك الأسئلة الوجودية عن جدوى الحياة وقبح العالم. لماذا يخلق الله المرض، ولماذا يميت الأمل؟ أنا لا أريد من الحياة كرمًا زائدًا. فقط تزيل المرض الذي يحوطني.

لم أحلم يوما بثروة أو أسعى إلى مكانة ما. حين شعرت أن كارنيه نقابة الصحفيين سوف يكون قيدا غادرت الصحافة. رفضت –بمساعدة زوجتي– عروض عمل إضافية بمقابل مادي مُجزٍ؛ رغبة منها في مكوثي لوقت أطول في المنزل. يرى البعض، أو المعظم، أن هذه تصرفات لا تليق بالرجال، لكنني لم أحلم بسوى ما يوطئ لنا الحد الأدنى من الحياة الكريمة.

الاستسلام انتحار ببطء. أنا لا أحب البطء. سوف أمضي في الطريق، طالما رفض السرطان فكرة الصداقة، ربما أصبح فعلا بطلا لأختي الصغيرة، وهذا كافٍ لخوض المعركة.